حضر التظاهرات بين الحفاظ على الصحة العامة والمسؤولية الجنائية (في ضوء انتشار فايروس كورونا)

 

شارك المقال

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Email
LinkedIn

إقرأ ايضا

تعدً حرية التظاهر السلمي ضامنة لمجموعة من الحقوق والحريات الأساسية المختلطة التي يستخدمها الأفراد لتحقيق أهدافهم , ويتم ذلك بتجمع أو سير عدد من الأشخاص في الطرق والأماكن العامة بشكل سلمي , وعن طريق الهتافات أو رفع الشعارات التي تُفصِح عن إرادة مشتركة للتعبير عن الرأي أو احتجاج أو المطالبة بحقوقهم التي يكفلها الدستور, بغية الضغط على النظام الحاكم لتحقيقه , فرع من حرية الرأي والتعبير كما انها جزء أساسي من حق المشاركة السياسية سواء تم ممارستها من قبل الاحزاب السياسية أم من الأفراد . وقد كلفت الدولة في دستور جمهورية العراق النافذ لسنة 2005 حرية التظاهر بما لا يخل بالنظام العام والآداب العامة استناد لا حكام المادة (38) منه, اذا نصت على: (تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب : …حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون) , ولكن هذا النص لايجعل منها حرية مطلقة , بل يتعين – ضماناً للتمتع بها في اوسع نطاق – ان تنظم بواسطة المشرع , ومن اجل إن لا تتجاوز على حرية التظاهر كان لا بد من وجود القيود او الضوابط الدستورية يتم إدراجها في صلب الوثيقة الدستورية وان ‏لا يترك للسلطة التنفيذية أن تنظمها , بشرط أن تبقى في حدود عدم الإخلال بالنظام العام . ولأجل تسليط الضوء على موضوع الصحة العامة كضابط لتقييد حرية التظاهر السلمي , اقتضى منا الامر بيان فكرة النظام اﻟﻌﺎم تلك الحالة التي تتعارض مع الفوضى ، فغالبا ما تشير لها التشريعات كهدف للسلطة التنفيذية- عند تقييدها للحريات- دون تحديد لمضمونها أو محتواها , مع ذلك يمكننا تعريف النظام العام على انه مجموعة من المصالح الجوهرية الاساسية والمثل العليا للدولة او الجماعة التي ترضيها لنفسها والتي يتأسس عليها كيان المجتمع كما يرسمه نظامها القانوني سواء كانت سياسية او اجتماعية او اقتصادية او خلقية او دينية ويعرض الاخلال بها كيان المجتمع للتصدع والانهيار.

ومن الاهمية تحديد العناصر التي يضمها اطار فكرة النظام العام والتي تتمثل فى الامن العام – الصحة العامة – السكينة العامة – والاداب والاخلاق العامة . وما يهمنا في هذا المجال هو عنصر الصحة العامة وكيف يمكن عدَه قيد على حرية التظاهر السلمي , فالصحة العامة تعني اﻟﻘﻀﺎء ﻋﻠﻰ اﻷﻣﺮاض ومخاطرها وذلك ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ الوقاية ﻣﻨﻬﺎ، والمقصود هنا هو كافة الاجراءات التي من شأنها أن تحفظ صحة الجمهور ويقيها شر الامراض أو الأوبئة ‏المختلفة , وقد تزايد اهمية هذا العنصر بسبب الازدحام السكاني وتعقد الحياة الحديثة وسهولة الاتصال بين الناس. ومن هذا المنطلق فقد كفل الدستور العراقي الحالي سنة 2005 في المواد 30-31 من الباب الثاني (الحقوق والحريات ) الضمان الصحي للفرد والاسرة , وكذلك الحق في الرعاية الصحية في المادتين (30-31) منه, لكن هذا لا يجعله حق مطلق , فقد تصدر السلطة التنفيذية بعض التعليمات او الانظمة او القرارات التي من شأنها تنظيم الصحة العامة بعدها من العناصر الاساسية في النظام العام وأحد اغراضه , لذا خول قانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 النافذ في المادة (48) وزير الصحة اصدار تعليمات بشان التدابير الواجب اتخاذها لمكافحة الامراض الانتقالية والمتوطنة التي تصيب الانسان او الانسان والحيوان معا او الحد من انتشار او منع دخولها الى القطر حسب طبيعتها بالتعاون مع السلطات المختصة الاخرى. كما اهتم التشريع الخاص بتنظيم حرية التجمع ومنها حرية التظاهر السلمي في العراق بذلك , فقد اشار القسم (1) من امر سلطة الائتلاف المنحلة رقم (19) لسنة 2004 الخاص بحرية التجمع على ان ( هذا الامر ضروري لحماية الصحة العامة والرفاء العام والسلامة العامة إذ تتحمل سلطة الترخيص – اي وزارة الداخلية- مسؤولية ‏الحفاظ على مستوى جيد من النظام والسلامة في العراق ، وهي مسؤولية التي تحتل أعلى درجة في سلم أولوياتها ….) اي ان الغرض منه هو حماية الصحة العامة والحفاظ عليها باعتبارها من مقتضيات تنظيم حرية التجمع ومنها التظاهرات .

لذا نجد في بعض احكامه يشير الى انه لابد من اخطار السلطات المعنية قبل القيام بالتظاهرة , هو اجراء ضروري كي يتسنى لها التخطيط المسبق بتحديد مكان التظاهرة وتحديد وقتها بل وحتى في تحديد بعض السلوكيات اثناء التجمع, ولهذا التخطيط المسبق اهمية في الموازنة بين مسألتين مهمتين في ما يتعلق بالصحة العامة , تتمثل الاولى في حماية صحة المتظاهرين من التأكد من سلامة المكان المراد التظاهر به من الاوبئة والامراض , وتوفير الاحتياجات الصحية للافراد الحاضرين في التظاهرة , وهو اجراء وقائي في التعرف على المخاطر الصحية المحتملة والوقاية من هذه المخاطر والحد منها, سواء كانت طبيعية كأنتشار مرضٍ معدٍ أو بفعل الانسان. اما المسألة الثانية تتمثل في امكانية السلطات المعنية من ممارسة سلطتها في منع التظاهرات بحجة حماية النظام العام متمثل بعنصر الصحة العامة وهو ما اشارت اليه واكدته منظمة الصحة العالمية (WHO) في احد منشورراتها للعام 2015 بعنوان الصحة العمومية في التجمعات الحاشدة . وتطبيقا لذلك ما يوجهه العراق الان في ظل أزمة انتشار فيروس كورونا المسبب لمرض (كوفيد-19)المستجد وإعلان منظمة الصحة العالمية بأنه وباء عالمي ينتج عن فصيلة كبيرة من الفيروسات التي قد تمرض الحيوان والإنسان على حد سواء وبما انه بات يسبب تهديدا مشتركا للعالم اجمع . لذا أصبح من المهم احتواء هذا الفيروس والحد من أثاره على شتى مجالات الحياة في العالم اجمع ولاسيما في اثناء َالتظاهرات , لذا شكلت في العراق لجنة عليا لمكافحة هذا الفايروس وفق للامر الديواني رقم (55) لسنة 2020, الذي خول بموجب قانون الصحة العامة النافذ وفق المادة (46) وزير الصحة والبيئة اصدار تعليمات لاتخاذ التدابير الازمة لمكافحة مرض (كوفيد-19) , وكان منها وفق البيان الصادر في (24/شباط/2020) على ان منع التجمعات كافة في محافظة النجف فقط بعد تسجيل اول اصابة فيها , ثم تبعه اصدار بيان في (26/شباط/2020) لحضر التجمعات في الاماكن العامة وفي كل انحاء العراق لاي سبب كان وعلى الجهات المعنية اتخاذ الاجراءات اللازمة لتنفيذه , وتم التأكيد في كل البيانات الصادرة من لجنة الامر الديواني اعلاه على ان استمرار التجمعات البشرية بكافة اشكالها ومنها التظاهرات تعدً من اهم واخطر العوامل المساعدة على انتشار المرض بسبب الاختلاط وسرعة انتقاله بينهم, وما يؤكد هذا المنع ايضاً هو فرض حضر التجوال في كل المحافظات كونه الطريق الوحيد للحد من انتشار المرض وايقاف التجمعات وفق البيان الصادر في 18/اذار/2020. من كل ذلك يتضح انه يمكن للسلطة التنفيذية في حالة وجود تهديد لصحة الافراد قد تفرض قيود على تجمع عام او تظاهرة بالمنع او الفض , مبرراً على اساس الحاجة الى حماية صحة المشاركين فيه كون هذا المرض ممكن ان يأخذ شكل الكارثة الحقيقية ومن ثم يكون قابلاً لان يحدث اضطراباً جسيما في النظام العام. وهذا بدوره يرتب على من يخالف هذا المنع المسؤولية القانونية وفق لقانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل ,في الفصل السابع منه بعنوان (جرائم الصحة العامة ) بان يعاقب وفق المادة (368) بالحبس كل من ارتكب عمدا فعلا من شأنه نشر مرض خطير مضر بحياة الافراد , فاذا نشأ عن الفعل موت انسان عوقب بالسجن . وكذلك يعاقب بالحبس اذا تسبب بخطئه في فعل ذلك وفق المادة (369) .

وكذلك وفق قانون الصحة العامة رقم رقم (89) لسنة 1981 وفق المادة(99) بأن يعاقب بالغرامة أو بالحبس او بكلتا العقوبتين كل من يخالف احكام هذا القانون او الانظمة او التعليمات او البيانات الصادرة بموجبه . هذا بالاضافة الى ان امر سلطة الائتلاف الخاص بحرية التجمع النافذ اشار في القسم (7) منه الى ان كل من يخالف هذا الامر يعرض نفسه لعقوبة السجن , بعد ان بين ان الغرض منه هو الحفاظ على الصحة العامة كما بينا. وهذا ما اكده بيان لجنة الامر الديواني (55) لسنة2020 الصادر في (17/اذار/2020) على قيادة العمليات المشتركة والقوات الامنية والجهاز القضائي في حالة عدم اتخاذ الاجراءات الكفيلة لمنع التجمعات البشرية التي تسبب كارثة صحية من انتشار فايروس كورونا , رغم منعها في الامر الديواني اعلاه ترتيب المسؤولية القانونية واتخاذ اقصى الاجراءات لتنفيذه حفاضا على حياة المواطنين لخطورة الوضع الوبائي . وبناء على ما تقدم يمكن القول على الرغم من ان النص على حرية التظاهر في صلب الوثيقـة الدستورية والتي تحتل قمة التسلسل الهرمي في ‏النظام القانوني للدولة مما يجعلها تسمو ‏في مرتبتها على النصوص التشريعية الأخرى التي تصدر عن السلطة التشريعية او الانظمة والتعليمات والقرارات التي تصدر من السلطة التنفيذية , كل ذلك لا يمنع من منح الجهات المختصة في لجنة الامر الديواني سلطات استثنائية بإصداره تعليمات وقرارات لحضر التظاهرات وخصوصا بعد ان اعلنت منظمة الصحة العالمية بانه يعتبر فيروس كورونا المسبّب لمرض (كوفيد-19) والذي يتفشّى حول العالم (جائحة)أي أنه وباء متفشي عالميا , يقتضي اتخاذ تدابير واجراءات طارئة وجدية لمكافحته والحيلولة دون انتشاره , كان لابد من فرض عقوبات وتدابير على كل من يخالف تلك تعليمات والقرارات من شانه الاخلال او احداث اضطراب جسيم في النظام العام .

المصادر
  1. د. . احمد عبد الحميد الهندي : حق التظاهر السلمي في القانون الدولي مقارناً بالانظمة القانونية الداخلية , ط1 , مركز الدراسات العربية , مصر , 2016.
  2. د. محمد احمد ﻓﺘﺢ اﻟﺒﺎب اﻟﺴﻴﺪ، ﺳﻠﻄﺎت اﻟﻀﺒﻂ اﻹداري في مجال ممارسة ﺣﺮﻳﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ , رسالة دكتوراه , جامعة عين شمس , القاهرة , 1993. د. شيماء عبد الغني عطا الله : التظاهر بين الاباحة والتجريم , دار الفكر العربي, دار الفكر القانوني للنشر والتوزيع , مصر , 2016.
  3. الصحة العمومية في التجمعات الحاشدة , من منشورات منظمة الصحة العالمية , 2015, على الرابط الاتي : www.who.int.com .
  4. مقال الكتروني بعنوان (منظمة الصحة العالمية تعلن تصنيف فيروس كورونا “كوفيد-19” جائحة عالمية ) , منشور على الرابط الالكتروني : https://www.france24.com/ar/20200311 , في 11/3/2020.

إقرأ ايضا