تربية الطفل ووراثته وفطرته التي تؤدي الى سعادته أو شقائه وتوبة الأنسان بتطبيق ما جاء به دين الأسلام لدفع الأمراض النفسية و الجسدية

 

شارك المقال

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Email
LinkedIn

إقرأ ايضا

حققت العلوم التجريبية إنتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة. وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين ولقد ساير (علم الأجنة) و (البحث عن الخلية) التقدم العلمي في المجالات الأُخرى في تكامله وتوسعه يوماً بعد يوم. لقد إستطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات (مجاهر) دقيقة، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى (الخلية)، وهذه تتكامل تحت شروط معيَّنة، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان. إن إكتشاف هذا السر الدفين عقدّ قانون الوراثة أكثر، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن؟ لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية. فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة. فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية والكيمياوية، ومن جهة أُخرى  كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون (مندل). فأين يكمن عامل الوراثة؟ وفي أي جزء من الخلية؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة؟ أي جزء من (البروتوبلازم) وأي  جانب من (النواة) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه،  والصفة الفلانية من أجدادة؟ وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية (نواة) بيضية الشكل ذات جدار مرن، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهرعند إنقسام الخلية، ولقد أسموها بـ (الكروموسومات). ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن  كل خلية من خلايا جسم الإِنسان تحوي 48 كروموسوماً، وخلية  الفأرة 40، والذبابة 12، والحمص 12، والطماطم 24،  والنحلة 32 …ألخ(2). ولقد خطأ العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أُخرى، فتوصلوا إلى أن في أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم (الجينات)، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة. فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات(الكروموسومات)  الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين  وغير ذلك من الصفات من الآباء والأُمهات إلى الأولاد. لقد أثبت علم الوراثة الحديث، أن الصفات الوراثية تنتقل  بواسطة الكروموسومات وتتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية وعليه فأن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى بـ (الجينات) وهي تكون العوامل  الوراثية. لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه (دروزوفيل) وعيّنوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى  الكروموسومات وعرفوا أبعادها. إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ (الجينات)،  وإن عددها كثير جداً. هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها  البعض. فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلا منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات . لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضىٰ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها. إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإِنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة. إن ما إكتشفه علماء الوراثة اليوم، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها (الجينات) ليس أمراً جديداً كل الجدة. فالرسول الأعظم والأئمة  الطاهرون عليه‌السلام، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والإِلهام لم يغفلو أمر هذا القانون الدقيق. بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الوراثة فيها اسم (العِرق) . وبعبارة أوضح فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة  (الجينة) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة (العِرق)(3). التربية و البيئة إن الطفل المتولد من أبوين صالحين يملك تربة مساعدة لنشوء الصفات الخيرة في نفسه ولكن إذا ترك في بيئة فاسدة منذ الصغر، أو سُلِّم إلى أفراد خبثاء بذيئي الأخلاق فإن النتيجة ستكشف عن فرد فاسد شرير، لأن الصفات الموروثة والفضائل العائلية لا تستطيع المقاومة أمام قوة التربية. وعلى العكس من ذلك فإن الأطفال الذين يتولدون من أبوين فاسدين ويملكون التربة المساعدة لنشوء الآثار السيئة في سلوكهم، لو تركوا في محيط مليء بالصلاح والخير وسلموا إلى مربّين صالحين فمن الممكن أن تختفي تلك الآثار السيئة عنهم وينشأوا أفراداً يتسمون بالفضيلة والإِيمان. « وتؤثر العوامل السيكولوجية تأثيراً أكبر على الفرد، فهي التي تكسب حياتنا شكلها العقلي والأدبي. إذ أنها تولد النظام أو التفرق وهي التي تدفعنا إلى إهمال أنفسنا أو السيطرة عليها، كما أنها تغيّر شكل تكوين الجسم ووجوه و نشاطه بوساطة الدورة الدموية والتغييرات الغددية، فأن لنظام العقل والإِستعداد الفسيولوجي تأثيراً قاطعاً ليس على حالة الفرد السيكولوجية فقط بل أيضاً على تكوينه العضوي والإِخلاقي ومع أننا لا نعلم إلى أي مدى تستطيع التأثيرات العقلية التي تنشأ من البيئة أن تحسِّن أو تقضي على الميول المستمدة من الأسلاف، فأنه لا شك في أنها تلعب دوراً رئيسياً في مصير الفرد، فهي أحياناً تبدد أسمى الصفات العقيلة، وتجعل أفراداً معينين ينمون بدرجة لم تكن متوقعة على الإِطلاق. وهي تساعد الضعيف وتجعل القوي أكثر قوة.  إنه مهما يكن من أمر ميول الأسلاف، فإن كل فرد يدفع بتأثير أحوال النمو في طريق يقوده إما إلى العزلة في الجبال أو إلى جمال التلال أو إلى أوحال المستنقعات حيث يطيب للسواد الأعظم من الرجال المتحضرين أن يعيشوا(1). تغلب التربية على الوراثة تبلغ العادات التربوية والتمارين الإِصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية وتحدث وضعاً جديداً في الأفراد ، يقول الإِمام علي عليه‌السلام بهذا الصدد « العادة طبع ثانٍ». إن الرئتين في الإِنسان خلقتا لاستنشاق الهواء، والذي يدخن السيجارة لأول مرة  ويرسل دخانها إلى أعماق رئتيه يحس باضطراب عجيب  إذ يحس بدوار في رأسه ، يبدأ بالسعال تنتابه حالة التقيؤ تملأ الدموع عينيه وهكذا  ينقلب حاله أثر الدخان. وهذا بديهي لأن الرئة لم تصنع للدخان بل  للهواء النقي. ولكن بتكرار التدخين تعتاد الرئة على الدخان وتتخلى عن طبعها  الأولي الذي كان ينفر من الدخان. وهكذا ينقلب ما كان يبعث على النفور  والاضطراب إلى أداة للتسلية والترويح عن النفس وهنا نقول بأن الرئة قد تربّت على استنشاق الدخان، وعلى أثر التكرار حصلت على طبع ثانوي وتركت طبعها الأول. ولهذا السبب فأنها ترتاح لعملها غير الطبيعي وتستمر عليه. إن الأنبياء لم يأتوا لأن يحولوا المجانين الوراثيين إلى عقلاء، أو يجعلوا  من البلداء الفطريين نوابغ ، لأن هذا ما لا يمكن أن يحدث. لأن الأنبياء  يريدون أن يخضعوا البشر إلى مراقبة إيمانية وعملية في خصوص الصفات القابلة للتغير على ضوء التربية الصحيحة، لإِيصالهم إلى السعادة والكمال الإِنساني. أما بالنسبة إلى الذين ينتمون إلى أصول عائلية فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم ويخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم مسير حياتهم. ويحفظوا ثروتهم  الوراثية العظيمة من الملكات والفضائل، لكيلا يقعوا في هوة الفساد والجهل  والطيش على أثر مصاحبة الفساد والجهل والطائشين. وأما بالنسبة إلى الذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء  على إطفاء الإِستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية  واتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة. وبذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير والصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة أن يحوز هؤلاء على درجة لا بأس بها من الكمال. هذا العمل أمر ممكن في نظر العلم والدين. فما أكثر أُولئك الذين كانوا متصفين بصفات رذيلة ثم زرع الإِسلام في نفوسهم بذور الخير والصلاح واقتلع جذور الشر والفساد، فوصلوا  بفضل التربية الإِسلامية الرصينة إلى أوج السعادة.  لوحدانية الإِنسان أصل مزدوج. فهي تأتي في وقت واحد من  تركيب البويضة التي ينشأ منها وكذلك من تطوره ونموه ومن تاريخه.  إن الخصائص الوراثية في البويضة ليست إلا ميول أو إمكانيات وهذه الميول تصبح حقيقة أو تظل تقديرية تبعاً للظروف التي تواجهها النطفة ، فالطفل ثم المراهق ، أبان نموهم. وهكذا يتوقف أصل الإِنسان على الوراثة والنمو معاً. ولكننا لا نعلم ما هو الدور الذي يلعبه كل منهما في تكويننا هل الوراثة أكثر أهمية من النمو. أو العكس بالعكس؟ إن الملاحظات والتجارب تعلمنا أن الدور الذي تلعبه الوراثة والنمو يختلف في كل فرد. وإن قيمتها النسبية لا يمكن تحديدها عادة»(1). جسد الطفل و روحه إن الإِنسان عبارة عن الجسد والروح، والمادة والمعنى. فالتربية  الصحيحة والتامة عبارة عن إحياء جميع الميول المادية والمعنوية، والمربي القدير هو الذي يلاحظ التوازن بين مطاليب الجسد ومطاليب الروح. فكما  يعتني بسلامة جسد الطفل، يجب أن يعتني بسلامة نفسه أيضاً. فيحاول أن  يبذر في نفسه بذور الفضيلة والإِيمان من أولى أدوار حياته ليتربى تربية طاهرة  صحيحة. فكثير من العوارض النفسية والمآسي التي تؤدي إلى الأمراض الروحية  والعقلية، وقد تجر إلى الجنون أو الإِنتحار أحياناً. إنما هي معلومة للإِنحطاط  الخلقي والإِنحراف عن السجايا الإِنسانية. أن المربي القدير يجب أن يسعى لدحر الميول المنحرفة والصفات البذيئة التي ورثها الطفل من أبويه (كتربة مساعدة)، فيعمل على قمعها وإخفاء آثارها، ويزرع مكانها البذور الصالحة للسلوك المفضل.  فبعض الأطفال قد ورثوا الجبن و البخل و الكسل و الخسة ونحوها من الصفات من أبويهم  وهذه الصفات ليست من  قبيل القضاء الحتمي والمصير القطعي الذي لا يقبل التغيير كما سبق بإمكان التربية الناجحة والبيئة الصالحة أن تبعد الطفل عن المفاسد، وترشده إلى طريق الفضيلة والطهارة. كانت الجزيرة العربية قبل الإِسلام مصابة بأنواع الإِنحرافات الروحية والخلقية طيلة قروون متمادية، حيث الرذائل متأصلة في جذور ذلك المجتمع  كالخيانة والسرقة، والعصبية والإِفساد، والجبن والحمق ، وما أشبه ذلك. ومن البديهي أن أطفالهم يتولدون مع إستعدادات للسلوك غير المرضي مضافاً إلى أن البيئة الفاسدة كانت تساعد على نمو تلك الصفات الرذيلة وظهور الإِستعدادات الفاسدة إلى عالم التنفيذ(1). الغفلة عن الأنحرافات الروحية يرى الناس أن المرض منحصر بالنوع الجسماني منه، فالسيئات الخلقية وملكات الرذيلة لا يعتبرونها أمراضاً، المصاب بالسل والسرطان يعتبر  مريضاً، أما الحسود والحقود فليس مريضاً عندهم، إنهم يرون قرحة المعدة أو الأثنى عشر مرضاً، ولكن الإِفساد في الأرض والأنانية لا يرونهما كذلك. وهكذا نجد الرجال حين الإِقدام على الزواج يعطفون جل إهتمامهم على جمال الوجه والهندام وسلامة الجسد للمرأة، من أن يسألوا عن صفاتها الخلقية وملكاتها المعنوية، وكذلك نظرة النساء إلى الرجال. فقصر القامة أو الحول في العين يعتبر عيباً في الزواج. ولكن الأنانية وبذاءة الأخلاق لا تعد  من العيوب عندهم. وعليه فمن البديهي أن السيئات الخلقية تنتشر بسرعة في  ظرف كهذا، ويزداد عدد المصابين بها يوماً بعد يوم. وبما إن السجايا الخلقية من الأركان  المهمة في موضوع تربية الطفل وهي  في نفس الوقت مفيدة لجميع الطبقات، نرى من الضروري أن نفصل القول فيها(1). تأثير السلوك في الجسم والأثر الثاني للأمراض الخلقية هو رد الفعل الحاصل منها في أجساد  المصابين بها، فالرجل السيء الخلق ليس مأسوراً للإِنحراف الروحي فقط ، بل إنَّ ذلك الإِنحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة. إن العلم الحديث يعتبر هذه القضية من المسائل القطعية المسلمة. هناك بعض العادات التي تقلل من القدرة على الحياة، كالأنانية  والحسد والتعود على الإِنتقاد في كل شيء واحتقار الآخرين وعدم  الأطمئنان بهم. لأن هذه العادات النفسية السلبية تؤثر على الجهاز السمبثاوي الكبير والغدد الداخلية. وبإمكانها أن تؤدي إلى  إخلالات عملية وعضوية أيضاً (1). إن الروايات المنقولة عن أهل البيت عليه‌السلام قد أكدت على هذه الناحية  وصرحت بأن الأخلاق السيئة تجعل جسد صاحبها مريضاً وضعيفاً ،  وعلى سبيل  المثال نذكر بعض الروايات الواردة عن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حول الحسد  وتاثيره السيء في أبدان الحساد 1-    « العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد».« الحسد يذيب الجسد».« الحسد يفني الجسد».« الحسود دائم السقم». « الحسود أبداً عليل»(1). نستنتج مما سبق عدة أمور : 2-    إن الروح والجسد مرتبطان ويؤثر كل منهما على الآخر. 3-    تعتبر الأخلاق الرذيلة والصفات المذمومة أمراضاً في عرف الدين  والعلم. 4-    لهذه الأمراض مضافاً إلى عوارضها الروحية آثار على الجسد  فتؤدي إلى إنحراف صحة المصابين بها أيضاً. الأمراض الوراثية لسلوك الأم تأثير عميق في سعادة الأطفال وشقائهم. وعليه فالرجل الذي  يأمل أن يحصل على ولد شريف وطاهر القلب لا بد له من أن يمتنع من التزوج من النساء البذيئات. « لقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أن من بين الأطفال المصابين  بتلك الأمراض يوجد 26% منهم وروثوها من أمهاتهم ، إذ لو كانت الأم ذات جهاز عصبي سالم، فإن الطفل يكون سالماً أيضاً ، فلو  كانت تفكر الأم في صحة طفلها وسلامة جهازة العقلي فلا بد وأن  تفكر في سلامة نفسها قبل تولده. إن هناك سلسلة من القوانين المتقنة والقوية تحكم الكون ، وتلك القوانين  هي التي أوجدت هذا النظام العظيم المحير للعقول في مختلف الكائنات والتي  أخضعت جميع أجزاء العالم لحكمها. فكل موجود مضطر إلى الإِنقياد لها  وإطاعتها(1). حجر الأساس في السعادة ولكي نثبت نظرة الإِسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الإِنسان ماديها ومعنويها في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط  التالية : 1. الايمان والأخلاق : إن الإِيمان بالله، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام، والمواظبة على التحلي بالفضائل الإِنسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الإِسلام في هذا المجال. وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث يقسم الله تعالى في سورة العصر. بأن جميع الناس من أي عنصر  كانوا، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس، إلا الذين أحرزوا بعض  الصفات، أولها الإِيمان بالله قال الله تعالى (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا …) وفي سورة  الشمس يقسم بالشمس والقمر، والليل والنهار والسماء والذي بناها  والأرض والذي بسطها والنفس الإِنسانية والله الذي وازن بين عناصرها. وألهمها الخير والشر (… قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). قسماً بكل هذه الآيات الإِلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه.  من الآثام ونزَّه روحه عن الجرائم. وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوَّث بالآثام والجرائم. يقول الإِمام علي عليه‌السلام « عنوان صحيفة المؤمن ، حسن خلقه». إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار  والحيوانات ، والنطفة والجنين. إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود،  كلها تهدف إلى أن يوجِّه الإِنسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله  العظيم. وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر  الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل، ولذلك فإن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن الواجب الذي بُعث من أجله فيقول  « بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». 2. الجهد البشري 1-    قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة». فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين. 2-    وقال أيضاً : « من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ، ويأخذ ثواب الأنبياء». وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه ، والنبي الذي يكد لأحياء الناس. 3-    في الحديث : « إن قامت الساعة ، وفي يد أحدكم الفسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها». فمن خلال هذا  الحديث ندرك مدى اهتمام الإِسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز من خيراتها وعدم التماهل بشأنها ، حتى أنه ليحث الإِنسان  على أن يبادر إلى غرس الفسيلة، (أو أي جهد إنتاجي آخر) وإن علم بأن  القيامة ستقوم بعد لحظات. 4-    يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام : « من وجد ماء وتراباً ثم افتقر ، أبعده  الله»(5). فهنا نجده عليه‌السلام يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء  والتربة. وتتوفّر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً ، فانه يستحق  غضب الله ولعنته. وهكذا نجد الإِسلام يهتم بأمر العمل والإِنتاج وتشغيل دولاب الإِقتصاد  الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس  الأوقات. 5-    وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع  زرعاً ، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة ، إلا كانت له به صدقة»(1). 3.مصدر السعادة: يتضح مما سبق مدى أهمية رحم الأم في سعادة الطفل وشقائه ، وكذلك  أتضح السبب في عدم ذكر الروايات لإِهمية أصلاب الآباء ، إذ أن الرحم هو  مصدر السعادة والشقاء ، وفيه يتقرر مصير الإِنسان وسلوكه بنسبة كبيرة. فبعض الأطفال يبتلى بقسم من العيوب والنواقص العضوية في ناحية أو  أكثر من البدن ، ويولد مع تلك العيوب. وهناك بعض الأطفال نجدهم سالمين  من حيث القوام البدني ، ولكنهم مصابون ببعض الإِنحرافات والعوارض النفسية  والروحية ، ولذلك فإن الشقاء قد لحق بهم وهم في بطون أُمهاتهم. إن الإِنحرافات البدنية والنفسية كثيرة. وهناك الكثير منها لا يزال مجهولاً لدى العلماء حتى اليوم. إلا أن قسماً كبيراً من تلك العاهات يمكن الإِتقاء منها  إذا أحرزنا السلامة البدنية والنفسية للآباء والأُمهات. السعادة و الشقاء في رحم الام إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم ، هو فهم معنى السعادة والشقاء. السعادة  حسن الحظ. ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه  والبركة . والشقاء  سوء الحظ. ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق  والشدة. ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين وإتساع دائرتيهما لكثير من المعاني  ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة (الشقاء) إلى معنى فقدان الإِيمان  والمعصية فقط. فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي ، في  حين أن الجريمة إحدى مراتب الشقاء فقط. وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً  أو معاصي في عرف الشرع لكنها مع ذلك  توجب الشقاء للإِنسان. كما  تصرح بذلك بعض الروايات ، نكتفي بنقل واحدة منها :  قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أربع من السعادة وأربع من الشقاوة. فالأربع التي من السعادة  المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب  البهي. والأربع التي من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء ، والمسكن  الضيق ، والمركب السوء». وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي  توجب للإِنسان معصية أو جريمة. فأننا نجد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدهما من  أسباب شقاء الإِنسان. وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة  الرجل فيمكن إعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى ، فإذا خُلق الطفل أعمىٰ في بطن أمه ، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في أمه. فيمكن القول  بأنه كان شقياً في رحم أُمه(4). الأنحراف عن طريق الفطرة إن من المؤسف أن الحياة العصرية قد إنحرفت بالبشر عن طريق الفطرة وقصرت إهتمامها على الجوانب المادية فقط. إن أكثر الأفراد اليوم يرون البشرية من خلف منظار اللذائذ والشهوات ، فيتناسون أهمية الجوانب المعنوية. وعلى هذا الأسلوب من التفكير يربون أبناءهم أيضاً فيعطفون جل إهتمامهم على العيش الرغيد والالتذاذ أكثر في حين أن إهتمامهم بتربية الإِيمان الفطري والسجايا الخلقية والواجبات الروحية. لا يبلغ الواحد في المائة من العناية بالجوانب المادية ، ولا شك في أن الإِنحراف عن طريق الفطرة لا يبقى بلا عقاب. إن المدنية الحديثة تسيطر على العالم منذ مدة ، والعلماء يقفون كل يوم على حل رمز جديد من كتاب الكون ، ويخطون خطوة جديدة في طريق العلم ، ويحرزون إنتصارات عظيمة في هذا السبيل. ولذلك فإن أسلوب المعيشة قد تغير والحياة ملأت جمالاً ، وخضع البر والبحر والجو لسيطرة البشر فالأكواخ المرطوبة المظلمة قد استبدلت بالقصور الضخمة الفاخرة المجهزة بجميع وسائل الراحة. وهكذا حلت النفاثات الجميلة القوية محل الفرس والجمل حيث توصل المسافر في أتم الراحة وأسرع الوقت إلى مقصده. ولا غرابة إذا رأينا أن المغازل اليدوية للعجائز وأدوات الحياكة اليدوية للشيوخ تخلي مكانها لمعامل الغزل والنسيج الأوتوماتيكية ، وهكذا خرجت الزراعة عن شكلها القديم ، وبدأ المزارعون العمل في الحقول بأحدث المكائن الزراعية وفقاً لأحدث النظريات العلمية . وبصورة موجزة  نرى أن العلم قد أخذ طريقه إلى جميع مظاهر الحياة ، مضيئاً كالشمس في كل مكان ، ومنظماً وسائل الراحة المادية والرفاه في العيش(1). ما هو الذنب الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الإِلهية ، واتباع الأهواء والرغبات التي  تلح عليها النفس ، من دون رادع أو مانع ، وكقاعدة أولية وأصلٍ ثابت يجب أن نقول إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية ، فليس بإمكاننا متاعبة الشهوة  والرغبات النفسانية ، وإطلاق العنان للإِرادة النفسية بحرية كاملة. فهناك الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكننا أن نخترقها. وعلى سبيل المثال  نشير إلى بعض الموانع بنماذج واضحة وأمثلة ساذجة يصادفها كل الأفراد في حياتهم اليوميّة. وهنا لا بد من الانتباه إلى نكتة مهمة ، وهي أن الذنب بغض النظر عن  الأخطار التي يتضمنها في الإِخلال بالنظام العام الاضرار بالمصالح الفردية  والإِجتماعية هو أهم عوامل إنحطاط البشرية وتقهقرها. فالمذنبون ليسوا  متمتعين بالمزايا الإِنسانية الشريفة والكمالات المعنوية ، فإن ظلمة الذنب تصير  حجاباً يخفي نورانية القلب وصفاء الباطن ، والمجرم قبل أن يلحق الضرر  بالمجتمع أو بنفسه ، يعمل على إنهيار شخصيته ويكبت الروح الخيرة في أعماقه. فعلى من يرغب في الفضائل الإِنسانية ويحب الكمال والتعالي  الروحي أن ينزه نفسه عن ظلمة الذنب والإِجرام. يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « مَن أحب المكارم إجتنب المحارم»(3). وفي  حديث آخر عنه عليه‌السلام : « من ترك الشهوات كان حراً»(5). إن الإِسلام يخطو خطوة أوسع في هذا المجال ، ويقول بأن الإِنسان  الواقعي هوالذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب ، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه  وفكره للتفكير في الذنب ، ولا يدع الفكرة المظلمة تمر بخاطره . فإن  التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق ، يوجد ظلمة روحية في  القلب ويمحو الصفاء الروحي من الإِنسان. يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « صيام القلب عن الفكر في الآثام  أفضل من صيام البطن عن الطعام»(6). ويقول إمامنا الصادق عليه‌السلام راوياً عن عيسىٰ بن مريم عليه‌السلام أنه كان يقول :   « إن موسى أمركم أن لا تزنوا ، وأنا أمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا ، فإن من  حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق فأفسد التزاويقَ الدخانُ وإن لم  يحترق البيت» .  أي أن فكرة الذنب توجد ظلمة في القلب شاء الفرد أم  أبىٰ وتسلب صفاء النفس ، حتى ولو لم يرتكبه الإِنسان. إن النكات الدقيقة التي أوردها الإِسلام في موضوع السعادة الإِنسانية في  القرون السالفة وعلمها اتباعه، تستجلب أنظار العلماء المعاصرين في العصر  الحديث فنراهم يفطنون إلى تلك الحقائق في كتبهم ومؤلفاتهم « للأمل والإِيمان والإِرادة القوية أثر كبير على الجسم ، وهو يشبه أثر البخار على القاطرة. إن النشاطات الجسدية والروحية تتكامل  بدافع الحب فتكسب الشخصية قوة ورصانة وكمالاً. وعلى  العكس فإن الرذائل تحط من الشخصية وتسحقها. إن الكسل  والتردد في الرأي مثلاً من أهم العوامل على جمود الفكر . وكذلك  العجب بالنفس والغرور والحسد فأنها من عوامل التفرقة والتباعد  بين الناس ، وهي جميعاً تمنع النفس البشرية من التكامل». « إن المعاصي كما نعلم تقلل من قيمة الحياة المعنوية. وإن  تحمل العيوب والنواقص خطأ فظيع(3). غفران الذنوب عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الإِلهي فان الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى إرتكاب الجرائم الخطيرة ، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر. أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، ويطمئن إلى المغفرة والعفو ، ويُظهر ندمه وتوبته بلسان الاعتذار إلى المقام الإِلهي. حينذاك تحل عقدته الباطنية ، ويهدأ وجدانه ، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع. « عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، وعندما يقر المجرم بذنبه ، ويستعد لإِصلاح نفسه. فإن الأمل في الرحمة والمغفرة يطفىء الإِحساس بالجريمة ، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بها أن يخرج رأسه بفخر من كابوس الإِجرام الفظيع ، وينسى بذلك ماضية »(1). على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية ، وبدونها لا يمكن الحصول على الإِطمئنان النفسي ، والفرار من دنس الجريمة  وهي : 1.الأقرار بالذنب على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الإِلهي بصراحة ، ويطلب منه العفو والمغفرة ، إن الإِقرار بالذنب يستطيع أن يزيل دون الذنب ، ويجلب رحمة الله الواسعة ، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، ويحل العقدة الباطنية ، ويخلص الإِنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة.أما الذين يرتكبون الذنوب ، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الإِلهي ومصابين بمضايقة الوجدان ، واللوم والتقريع المستمرين منه. عن أبي جعفر عليه‌السلام « والله ما ينجو من الذنب إلا من أقرَّ به ». وقد ورد عنه (أي الإِمام الباقر عليه‌السلام) أيضاً  «ماأراد الله تعالى من الناس إلخصلتين  أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، وبالذنوب فيغفرها لهم » يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام « حسن الإِعتراف يهدم الإِقتراف ». 2.رجاء المغفرة يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وخائفاً راجيا وعاملا لما يخاف ويرجو .وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الإِجرام بالتوبة والإِعتذار ، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير. لقد وضع الإِسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الإِعتداء والعجب بالنفس ، وان لا يروا أنفسهم بمأمنٍ من عذاب الله لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً. يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام بهذا الصدد  « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح الله ،والأمن لمكر الله »(1). إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الإِسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله. يقول الإِمام أمير المؤمنين لولده عليه‌السلام مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حدّ « وأرجُ الله رجاءً إنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ». فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله ، مهما عظمت ذنوبه (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ، لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (2). 3.الندم وطلب المغفرة إن على المذنب بعد الإِقرار بالذنب ، ورجاء المغفرة ، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة . وطبيعي أن يغفر الله الذنوب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية. فإذا أظهر شخص الإِستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على أعماله البذيئة ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام بهذا الصدد « من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه ». إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك وفي ظل العنايات الإِلٰهية من دنس الذنوب ، يحزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة ، فلايحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير ، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام « التائب من الذنب كمن لا ذنب له »(1). الجزاء الآجل لا شك في أن كل ذنب يترك أثراً سيئاً في الفرد والمجتمع على السواء  والمذنب يلاقي جزاءه حتماً ، غاية الأمر أن بعض الذنوب تظهر نتائجها بسرعة ويلاقي المجرم جزاءه عاجلاً ، بينما لا تنعكس آثار بعض الذنوب على الفرد  والمجتمع إلا بعد مدة طويلة. وعليه فالمجرم لا يلقى جزاءه إلا بعد مدة من الزمن أو بصورة تدريجية. فالذين يحبون الفضيلة والكمال ويريدون بلوغ الأوج في الفضائل والمثل  الإِنسانية يتحاشون إرتكاب كل أنواع الذنوب والجرائم ، سواء كان جزاؤها  مؤجلاً أو معجلاً .  أما بعض قصار النظر الذين لا يتمالكون من إقتراف  الذنوب ولا يراعون الله والقيم العليا والمثل الإِنسانية ، فأنهم يظنون أن  الخلاص يكمن في ترك الذنوب ذات الجزاء العاجل ، وحينئذ فهم لا يرون  مندوحة في أن يمارسوا شهواتهم وأهواءهم بالنسبة إلى الجرائم التي يكون  الجزاء فيها آجلاً. إن أوضح مثال على ذلك نجده في التعاليم الصحيحة. فالطبيب يقول للمريض المصاب بالإِسهال  إمتنع عن تناول الأطعمة العسرة الهضم والفواكه  النية ، والمريض يطيعه على ذلك. لأنه لو خالفه يصاب بعد ساعة أو ساعتين  مثلاًـ بآلام شديدة ونزف معدي أو معوي وضعف عام في جسده ، بصورة موجزة  بما أن الجزاء سريع وعاجل فالمريض يضطر إلى إطاعة الطبيب. أما إذا نصح هذا الطبيب شاباً بالإِجتناب عن الخمر والحذر عن الوقوع  في أسرها ، وسأله الشاب  وماذا سيحدث إن  شربتها؟ فيجيبه الطبيب إنك ستجد بعد عشر سنين الآثار الوخيمة للخمرة في جسدك وروحك . ستصاب  بالعوارض القلبية والكلوية والكبدية ، وتقترن حياتك ببؤس وشقاء وانحلال. وما أشبه ذلك. ففي هذه الصورة نجد الشاب يتماهل في العمل بنصائح الطبيب ويعاقر الخمر ليل نهار ، والسبب في ذلك هو أن جزاءه آجل غير عاجل. وهكذا فكل قانون يكون عامل التنفيذ فيه قوياً وسريعاً فإنه يطبق بأحسن صورة وكلما فُقد عامل التنفيذ أو كان الجزاء فيه آجلاً فإن تطبيقه لا يتم بصورة مرضية(1). الجزاء العاجل أن القوانين الطبيعية تمتاز بأن مخالفتها تؤدي إلى أن يلاقي الفرد جزاءه عاجلاً. ولذلك فإن الناس يخافون الخروج عليها. النار تحرق فوراً ، الغاز يخنق رأساً ، ولذلك فإن هذه القوانين تقابل بالإِطاعة التامة والإِنقياد الكامل ،  ومعها يضطر المريض إلى إطاعة أوامر الطبيب حينما يصطدم بالآم شديدة وحمى قوية وضعف تام بعد مضي ساعة على مخالفتها. وهكذا ، فالمجرمون الذين يخرجون على القوانين الإِجتماعية إذا وجدوا أنفسهم أمام عقوبات صارمة كالسجن مع الأعمال الشاقة أو الإِعدام مثلًا فأنهم  يضطرون إلى إطاعة القانون واحترامه. ويحذرون من تجاوز حدودهم المقررة  في إطار القانون. إلا أنه توجد في القوانين السماوية ذنوباً وجرائم ، يكون الجزاء عليها في  الدنيا بطيئاً وفي الآخرة أبطأ. ولهذا فإن كثيراً من الناس لا يرتدعون عن ارتكابها أو لا يجدون في أنفسهم خوفاً من إرتكابها على الأقل ظانين أنهم  في حصن حصين عن الجزاء. ولقد رأينا كيف حدثنا التاريخ بالجريمة الكبرى  التي ارتكبها عمر بن سعد في قتل الإِمام أبي عبدالله الحسين عليه‌السلام حيث وقع  أسير التفكير الخاطیء الذي وجد نفسه معه في أمن من العقاب لكونه بطيئاً  غير معجل ، ولذلك فقد سُمع يردد « وهل عاقل باع الوجود بدين؟». إذ أن إمارة) ري ( كانت معجلة بينما جزاء يوم القيامة بعيد وآجل . وعليه فلا يجب ترك العاجل بالآجل. بينما نجد القرآن الكريم يفند هذه الفكرة ، وينبِّه الناس إلى ضرورة توقي الجزاء الآجل ، كما لو كان عاجلاً بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ  قَرِيبًا)(1). الخلاصة 1-  الطفل يفتقر  إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه ، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقّاها، والحضارة التي يتطبع عليها، والتربية التي ينشأ عليها. 2-  إن الإِنسان عبارة عن الجسد والروح، فالتربية  الصحيحة والتامة عبارة عن إحياء جميع الميول المادية والمعنوية، والمربي  القدير هو الذي يلاحظ التوازن بين مطاليب الجسد ومطاليب الروح. فكما يعتني بسلامة جسد الطفل، يجب أن يعتني بسلامة نفسه أيضاً.  فيحاول أن  يبذر في نفسه بذور الفضيلة والإِيمان من أولى أدوار حياته ليتربى تربية طاهرة  صحيحة. فكثير من العوارض النفسية والمآسي التي تؤدي إلى الأمراض الروحية والعقلية، وقد تجر إلى الجنون أو الإِنتحار أحياناً. إنما هي معلومة للإِنحطاط  الخلقي والإِنحراف عن السجايا الإِنسانية. أن المربي القدير يجب أن يسعى لدحر الميول المنحرفة والصفات البذيئة التي ورثها الطفل من أبويه ، فيعمل على قمعها وإخفاء آثارها، ويزرع مكانها البذور الصالحة للسلوك المفضل. 3-  إن الإِسلام يبني أساس لسعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة.  إنه ينظر إلى الإِنسان بنظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية  وجبلته التي جُبل عليها.  إنه ينظر إلى الإِنسان من جميع جوانبه المادية  والمعنوية، الروحية والجسدية، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص. ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق  نصف من وجود الإِنسان. وكذلك الذين يرون اليوم إنحصار سعادة البشر في تقويم الإِقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه. فانهم خاطئون جداً.  إن الإِنسان يتكون من جسد و روح ، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله الرغبات المادية والميول المعنوية.  فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الإِنسان، فإنه يخل بالعادة الإِنسانية بنسبة ما أهمل  من رغباته.  قال الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
المصادر (1)  كتاب الطفل بين الوراثة و التربية، تأليف الشيخ محمد تقي الفلسفي، المحقق  فاضل  الحسيني الميلاني، دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع، الجزءالأول ،  1429ه-2008م . (2)  كتاب تاريخ علوم، تأليف بي ييروسون، ترجمة حسن صفاري، ص (707). طبع سنة 1954م (3)   وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج 12/14. (4)   الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج 2/80. (5)   بحار الأنوار للمجلسي ج 23/19 . (6)   غرر الحكم و درر الكلم، للامدي ، ص(167)ط ، دار الثقافة في النجف الاشرف.

إقرأ ايضا